الكاتب : هشام بومداسة

للمعلم سر بداخله اتجاه مهنته التي يستهويها حد العشق والوله.. هو المعلم أحمد ناعوط الصانع التقليدي لفن الخراطة، الذي يعتبر نفسه بأنه لم يتعلم هذه الحرفة أو تتلمذها على يد أبيه المعلم محمد فحسب، بل يعتبرها، وعلى لسان أبيه، بمثابة ” خلوق”، هواية، وعشق وفطرة وسجية.. لا تستهويه كلمة المعلم أو الصانع كثيرا لأنه يعتبر عمله فنا وصنعة في الآن ذاته لأنه تمكن منها بالنظر والممارسة في الآلة اليدوية التقليدية أولا ثم الميكانيكية الحديثة ثانيا..ففنه الذي تشربه على يد أبيه بكل تدرجاته وطقوسه ونفس صبره المتمهل يمارس من خلاله إبداعاته وتفنناته التي تفيض تحفا، وترتق منمنمات خشبية لا تنطق عن الهوى، وإن كانت من وحي الهوى والوجدان والروح والنفس العاشقة الذواقة المجبولة على فن الخراطة، وأهمها إتقان خراطة آلة “الغيطة”، لا الترتيل والعزف عليها.

أحمد ناعوط ابن المعلم محمد ناعوط الوزاني المشهور بفن الخراطة على الخشب، بل إن اسم عائلته  تعرف بهذا الفن الأصيل المتفرد والمتميز، لدرجة أن اسمه العائلي ، ناعوط ، ارتبط بفن الخراطة خلفا عن سلف. يعي جيدا بأن هذا الاسم، ناعوط، يستغل  بشكل مشوه من جهات ورغبات تنزع نحو امتلاك ما لا تقدر على امتلاكه من سر الصنعة ـ الفن لتصوبه إليها غصبا وقسرا وتقصيرا.. يأتيه المحج والمطلب من كل فج عميق بأرض الوطن وخارجه، في الحضور والغياب معا. تحضر للفنان ـ المعلم  في خضم هذا المحج المتعدد المشارب والأعماق والاتجاهات فراسة حادة في التقاط الأذواق والنغمات والإيقاعات ولو في غياب الراغب والمريد لتحفة من تحفه. يكفي أن تكشف له عن هويتك الجغرافية و ميولاتك الذوقية ونزوعاتك الفنية، في الحضور أو في الغياب، لا فرق، عبر العلاقة المباشرة أو هواتف الأزمنة الرقمية والتقنية الافتراضية، لكي يفي مرادك ومطلوبك من سر أسراره في فن الخراطة بإحدى التحف التي لن تجد من يفي  بإبداعها وصنعها و”خلقها” في أي بقعة من ربوع المغرب بنفس الروح التي يبعثها فيها المعلم أحمد. ليس من الذين يقبلون الأحكام الجاهزة، ولا العناوين النمطية، ولا الصور الجامدة والثابتة، ولا الرأي الشائع فيما يخص صنعته وفنه وتحديدا في هوية انتسابها وحضورها وانتشارها وموقع إبداعيتها. يعرف جيدا أن مدينة وزان التي تشرب فيها نشأته وطفولته وتعليمه وفنه.. مشهورة  بعلامة ثقافية وهوياتية لدى الخاصة والعامة تلتصق خصيصا  بمميز الجلباب أو “الرقعة” الوزانية، وزيت الزيتون، لكنها بالنسبة إليه ليست العلامة الوحيدة التي تكتمل بها الصورة المميزة لمدينة وزان في مجال الصناعة التقليدية والفنية والثقافية، وذلك حين ينبهنا بأنه الصانع التقليدي والفني الوحيد بالمغرب الذي يتقن فن صناعة وخراطة “الغيطة”، ويلبي مجمل الرغبات والطلبات الخاصة بهذه الآلة الموسيقية .. يقر بالجزم، الذي لا يشي بأية نزعة مغرورة أو سمة شوفينية نرجسية، بأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تجد بقعة جغرافية داخل المغرب من يصنع هذه الآلة الموسيقية التقليدية منها والحديثة إلا في حضرته ومقامه وعلبته ومصنعه الصغير بمدينة وزان، لأنه العارف المتمكن بنبضات أوزانها ومستويات دقتها وانكساراتها. لا يبرح، السي أحمد الفنان ـ المعلم، بؤرة البوح بأسراره في فن الخراطة التي تشتغل على التحف والمجسمات العديدة من قبيل “السبحة” و” طرينبو” وآليات الدرازة والغزل كالناعورة والمغزل والخفيف أو “الضريف” و”النزاق”/المكوك المستعمل في الدرازة.. ثم آلة النفخ ـ الغيطة باعتبارها تميز صنعته ويتميز بها، وترقى  لمصاف ومقام سدرة الفن والإبداع والفرادة والدقة الأصيلة الممتدة في الزمكان..

يقر بكثير من الأريحية بأن تعدد أنواع الغيطة التي يصنعها، والتي تقاس بأنواع النغمات والإيقاعات الموجودة والمحفوظة بكل ربوع مناطق المملكة، لا يتقنها نغما وإيقاعا وطربا، بقدر ما يتقنها ويحذق فيها تصنعا وتفننا وثقافة في دقة صنعة “الخرط”، وفراسة صنع “ادخيرة” التي يعتبرها روح “الغيطة” ومنطقها وعقلها ولونها وميزانها الموسيقي وثقافتها. فهو يخرط قالب الغيطة الذي يتقاسمه مع باقي الخراطين، لكنه يصنع لها “ادخيرتها” التي تناسب الثقافة الموسيقية التي تحدد المرجعية الفنية  لأي “معلم غياط”، أو رغباته الذوقية في النغمة والميزان والإيقاع. فأنواع “اخيرة”، أو روح الغيطة، تسمح بمعرفة أنواع النغمات والأوزان، ومن ثمة تنوع التقسيم الجغرافي لثقافة “الغيطة” بالمغرب التي يحصرها في الجبلية التقليدية والعصرية المتسمة بنغمات “جرا”(بتسكين الجيم) التي تعرف كلها بالرقة والحنين والدفء. نفس الأمر يقوله عن النوع العيساوي والحوزي. أما النوع الغرباوي والحمدوشي فيعرف بنغمة “قبا” (بتسكين القاف) مع فارق واضح بينهما يتمثل في كون الأول يعرف “بقبا مذكر” والثاني الحمدوشي “بقبا” فقط. الأول غليظ  الصوت بعض الشيء، بينما الثاني فصوته ورنته غليظة تماثل حجم “الغيطة”. أحجام الغيطة تختلف من منطقة جغرافية لأخرى، لكن الأحجام التي تستعمل في الغالب لا تخرج عن ثلاثة أحجام رئيسية، هي: الصغيرة الباريسية PARISIANA (هكذا ينعتها) والمتوسطة والكبيرة الحجم التي تستعمل من طرف أهل الطريقة والنغمة الحمدوشية. إلا أن عدد الثقب الخاصة بهذه الأحجام فمتساوية كلها، إذ يصل عددها إلى 15 ثقبا فقط موزعة إلى أربع جنبات، حيث الأمامية منها وعددها 10 ثقب وتسمى ب”انقط” (تسكن النون وضم القاف)، والخلفية واحدة، ثم الجنبات وعددها اثنان في كل جهة، وتسمى ب”المسامع” (بتسكين الميم) حيث توجد بأسفل الغيطة.

التقسيم الثقافي والنغمي للغيطة يعرفه المعلم ـ الفنان من الانتماء الجغرافي لكل معلم/ “الغياط” طالب آلة “الغيطة”، لذلك تجده يتعامل مع كل جهات المغرب التي تعرفه كل واحدة منها بإحدى المميزات الخاصة في “النوتة” والنغمة و”التفريقة” والإيقاع.. حيث يحددها في المناطق التالية: المنطقة الشرقية حيث يأتيه أهل وجدة وبركان وكرسيف وتازة  بمنطقة “كلدمان” المشهورة بأهل “غياثة” المعروفة ب”الركادة”. أما منطقة الجنوب، سواء بالجنوب الشرقي كورززات أو بتارودانت وهوارة ودوار صداق طريق تارودانت فتأتيه الوفود طيلة السنة وفي مواسم شتى. بينما الحوز ومنطقة الغرب فيزوره من أجل مطلبهم في صنع هذه الآلة من البيضاء وآسفي والصويرة ومراكش،  ثم من سلا والقنيطرة والمناصرة وسيدي سليمان وسيدي قاسم حتى أحد كورت.. ناهيك عن منطقة الشمال التي تفد إليه من الحسيمة والناظور وطنجة وتطوان وشفشاون والعرائش وأصيلا والقصر الكبير من أهل اسريف خصيصا المعروفة تميزا ب “جهجوكة”.. فكل هذه المناطق وغيرها من داخل المغرب وخارجه تحج إليه راغبة في مطلبها تأتيه من العالمين القروي والحضري معا إلى مدينة وزان حيث محج ومبتغى هذه الصنعة ـ الفن..

ما يثير حفيظته وتحسره في المهنة التي عاشها وسكنته منذ طفولته ثلاثة أمور يعتبرها غصة في قلبه لا يمكن أن تندمل، أولها أن الخلف الذي كان يحلم به كوريث لسر هذه المهنة لم يستطع أن يكمل المسير الذي يضمن استمرار هذه الحرفة في اسم العائلة. صحيح أن ابنه تعلم كل اللحظات الاساسية لهذه الحرفة لكنه لم يستطع مقاومة صبر الصانع الفنان الذي  يعتبر أن الصنعة لا تكتمل معه إلا وهي منقوصة تحتاج للتجديد والمهنية والإتقان والممارسة المرهونة بالديمومة.. ثاني الغصات التي تزعجه تكمن في الوعي المشوه الذي أصبح يلاحق مهنته التي أصبحت مهنة من لا مهنة له بمجرد إتقان نوع محدد من المخروطات التي ينعتها “بالسواقي” والتي كثرت وانتشرت محلاتها  كالفطريات في الأزقة والدروب، بل في اجتياحها لأماكن وفضاءات تمثل الذاكرة المشتركة لمدينة وزان بسوق الحايك الفضاء والنقطة الأصيلة لبيع الجلباب الوزانية تحديدا والتي أصبحت تتضايق من غبار خراطتها “السواقية” لا “العشاقية”، هكذا يقول. وثالث الغصات التي تعتصره، وهي لصيقة تماما بالثانية، فتتمثل في كون الخراطة “السواقية” الغير مهارية يجهز على أنواع معينة من عود الخشب كعود “بوخنو” وعود شجرة الزيتون الذي يتم استنزافه بشكل عشوائي من جبل الريحان/ “بوهلال” وباقي المناطق القروية المجاورة للمدينة، الأمر الذي ينذر بمشاكل منتظرة على المستوى البيئي والمجالي والطبيعي..لكن كل هذه الغصات التي يبوح بها تخف وطأتها عليه عندما يدرك بوعي أن “غيطته” تصل عبر وساطات “معلمية” لهم امتدادات فنية كبيرة ببعض الدول كبلجيكا وفرنسا وإنجلترا وأمريكا من أبناء الجالية المغربية من جهة، ولبنان وتونس والجزائر من جهة ثانية. أما غبطته الكبرى في ما يصنعه من آلة “الغيطة” فيقيسها في التمثيلية القوية للحضور الشبابي، حرفة وهواية، في فن العزف على هذه آلة ـ “الغيطة” ـ بألوان حديثة وأصيلة وعريقة تضمن استمرار المهنة وتشجع على المزيد من الإبداع والتجديد فيها..