بقلم مولاي اسماعيل العلوي

من منا لم يتأثر بـ”انتصارات” الأبطال التي رسمتها السينما الامريكية وصناع الرسوم المتحركة في عقول الأجيال المتعاقبة من الأطفال والشباب والرجال! حيث رسخت هوليود وأخواتها الصورة النمطية للبطل الأبيض الذي يهزم الصعاب بسهولة فائقة، فأغلب السيناريوهات التي قدمتها السينما الامريكية لجمهورها في العالم ينتهي فيها “البطل” بالانتصار على أعدائه ويتفادى كل المخاطر بسهولة مثيرة للاعجاب، وهي ثقافة أمريكية متجذرة في الامبراطورية الناشئة الفاقدة للتاريخ العريق وللأبطال الحقيقيين، لذلك ركزت هوليود على القصص الخيالية التي تعكس حلم النجاح المبهر والتفوق الخارق، وهو جزء من الروح الأمريكية التي تؤمن بـ”النهاية السعيدة” (Happy Ending).، ولو كانت على حساب مأساة “الأعداء” من الأمم الأخرى، كما حدث من إبادة همجية لسكان امريكا الاصليين.
فمن دهاء تلكم الروح الامريكية الصاعدة تمريرها تفوق البطل الامريكي الابيض عبر الترفيه والتسلية، إذ أدرك عباقرة صناع الترفيه أن الجمهور يُفضل مشاهدة البطل الذي يتغلب على الصعاب دون معاناة مفرطة، مما يُشعره بالإثارة والرضى، وبالتالي تعزيز فكرة “البطل القدوة”، الذي يتم السير على خطاه لمن استطاع الى ذلك سبيلا، مادام خارقا لا يهزم أبدا! فهي دغدغة لمشاعر الجمهور الذي يميل إلى الهروب من واقعه بالتعاطف مع بطل لا يُهزم على الاطلاق او على الأقل لا يهزم بسهولة! فيمنحه ذلك إحساسًا مزيفا -مؤقتا- بالانجاز والانتصار غير المباشر، فهوليود وُضعت أصلا لضمان توقعات الجمهور وتغذية متطلباته، وهكذا تحقق فكرة “البطل الذي لا يُهزم” نجاحًا ثقافيا وتجاريا وتُجاري أحلام المشاهدين..
لما نجحت هوليود في رسم صورة البطل الابيض الذي لا يهزم في أذهان ملايين المشاهدين، واكتسحت عقول أجيال من الاطفال بابطال خارقين من ورق! استهوت الفكرة “شعب الله المختار” الذي ادرك بدهائه الفطري دور الصورة في ترسيخ الصورة الذهنية لدى الجمهور المستهدف، فسارعت العصابات الصهيونية لاستثمار الفن السابع وعالم الصورة عبر الأفلام والإعلام والإعلان وخدمات العلاقات العامة.. من اجل رسم صورة إيجابية للكيان اللقيط الكريه..
وإذا كانت هوليود قد نجحت في تسويق اسطورة “البطل الذي لا يُهزم” فإن العصابات اليهودية الصهيونية قد امتاحت من نفس المعين وأطلقت اسطورتها الإسرائيلية، بعد تحقيق “بطولاتها” ضد قرى المدنيين العزل، وإلحاق هزيمة نكراء بجيوش بعض الانظمة العربية، فروجت لسردية “الجيش الذي لا يُقهر” !
وكلا من هوليود والصهاينة اليهود يتقاطعان في صناعة صورة أسطورية لتحقيق أهداف ثقافية أو اقتصادية وسياسية! فهوليود تبيع فكرة البطل الخارق لترويج افلامها وتجني الارباح الطائلة من شباك التذاكر، و”إسرائيل” تروّج لـأسطورة “الجيش الأقوى في المنطقة” لترهيب الخصوم و”ردع الجيران” وإقناع شعبها المرعوب بـ”الأمان الوهمي” .
ولا شك أن الفرق الجوهري بين سينما هوليود واليهود الصهاينة : أن السينما تعترف بأنها من نسج خيال المبدعين، أما الدعاية الصهيونية فتقدم سرديتها على أنها حقيقة مطلقة، وتحارب من يفضحها او يكشف زيفها، والدليل محاصرة الاصوات المعارضة، بل وصلت إلى اغتيال الشهود من رجال الصحافة.
فقبل هجوم السابع من اكتوبر نجحت “اسرائيل” في تسويق صورتها كـ”دولة” رائدة في مجال التكنولوجيا والابتكار، وأنها “الدولة” الديمقراطية الوحيدة في صحراء الشرق الاوسط الاستبدادية! وتفتخر بقدراتها التكنولوجيا الدفاعية المتقدمة مثل الجدار الحديدي الذكي، الذي يمتلك قدرة على الاحساس بدبيب النملة إذا اقتربت! اضافة إلى نظام القبة الحديدية العبقري، وكذا فخر الصناعة “الاسرائيلية” من الدبابات القتالية المحصنة العصية عن التفجير، والتي توفر حماية عالية للطاقم، ناهيك عن أسراب الطائرات المقاتلة المعروفة، والغواصات الهجومية، وانظمة الدفاع السيبراني، هذا بغض النظر عن الاستخبارات الداخلية والخارجية، ووحدة الاستخبارات العسكرية التي تعتبر من أكثر الوحدات فعالية في العالم…
كل تلك الاسلحة المتقدمة التي تمتلكها “اسرائيل” وغيرها هدفها تحقيق الشعور بالامان لدى كيان مرعوب، وكذا النجاح في ردع جيران الطوق وكل الاعداء المحتملين، انطلاقا من حقها المشروع في “الدفاع عن النفس”! الذي تضمنه لها الولايات المتحدة الامريكية، وإن انتهكت كل المواثيق الدولية وضربت بها عرض الحائط.
وقمة الاحتيال ان تصف “إسرائيل” كل عدوانها وغاراتها واغتيالاتها الغادرة، وجرائمها ضد الانسانية، وارتكابها للإبادة الجماعية: “دفاعا عن النفس”!
فقبل هجوم الطوفان التاريخي نجحت “اسرائيل”، ومن ورائها راعيتها أمريكا، في ترسيخ صورة “الدولة الخارقة” المتفوقة تكنولوجيا، وأن جيشها هو الأقوى في المنطقة، إذ يهابه الجميع لتمتعه بقوة ردع “صنعتها” آلته الدعائية العالمية بمساعدة كبرى مؤسسات العلاقات العامة التي قامت بكي وعي كل الأنظمة العربية، فهَمّت هذه الأخيرة مهرولة إليها رغبة او رهبة من راعيتها الرسمية…!
وما أن هب الطوفان في ذلك اليوم المشهود من اكتوبر حتى انهار “الجيش الذي لا يقهر” وتهشمت هيبته، وأصبح مسخرة أمام العالم، وهاهو منذ سنتين تقريبا وهو عاجز تماما عن استعادة اسراه بالقوة العسكرية التي يفتخر بها أمام العالم، ولم يحقق إلا الدمار الشامل للقطاع المحاصر، وممارسة العدوان اليومي على المدنيين الأبرياء، وارتكاب الإبادة الجماعية، وتجويع السكان، وقصف المستشفيات والمدارس وسيارات الإسعاف، والصحفيين…إنه يستأسد فقط أمام الجرحى والأسرى والجوعى والموتى…ويجبن أمام المقاتلين ولا يقوى على مواجهتهم وجها لوجه، فتراه يستمعل الحفاظات! ويهاجم الجدران ويفبرك لقطات لعمليات وهمية، ويفر افراد جيشه “الخارقين” الخائفين من الخدمة العسكرية، ومن شارك منهم يعاني من الأمراض النفسية والهلوسات الليلية، ناهيك عن ارتفاع نسب الانتحار في صفوفه…وما خفي اعظم !
ولكي يحافظ “الجيش الذي لا يقهر” على صورته و”هيبته” المصطنعة كان لا بد من اخفاء خسائره على أرض الواقع، فلا يليق بجيش لا يقهر ان تظهر سوآته ويعلو صراخه وينكشف جبنه امام المقاتلين الشجعان، فبالرغم من دعمه اللامحدود الذي يتلقاه من العالم الغربي والشرقي، والمساندة اللامشروطة من امريكا واروبا وحتى الصين والهند وبعض الدول العربية! لم يستطع الكيان اليهودي الصهيوني ان يكسر صمود فصائل المقاومة في قطاع محدود، فما زالت المقاومة الباسلة تؤلم العدو وتكبده خسائر يومية، فما ان يستيقظ من صدمة كمين بالجنوب حتى يقع في آخر بالشمال!
ولما عجز أقوى جيش في المنطقة عن تحقيق اهداف حربه على غزة، لم يجد امامه إلا الحاضنة الشعبية لينتقم منها، فتراه يستهدف -لجبنه وحقده- النساء والاطفال والعجزة والمدنيين الذين يتلذذ بنزوحهم من مكان إلى مكان، ويقصف خيام النازحين وأجنحة الولادة ويوجه أسلحته الذكية نحو الجوعى وطالبي المساعدات! إنه جيش جبان يتقن القصف والقتل انتقاما، ولا يتقن المواجهة والقتال ، يتفنن في القتل الجماعي عن بعد بالدبابات والصواريخ والطائرات، وعن قرب بالرشاشات وبنادق القنص، ويستهويه التنكيل بالسكان العزل من النساء والاطفال والأسرى والمرضى والجوعى وحتى الموتى! وذلك ليغطي عن جبنه في تحقيق اهدافه العسكرية منذ سنتين تقريبا!
ولكي يحافظ على ما تبقى من صورته المهشمة من المقاومة الشرسة والباسلة، ترى عصابات الجيش الصهيوني الجبان تستأسد على الحاضنة الشعبية، التي ينظر إليها جيش العدو كمياه الاسماك التي وجب تجفيفها من اجل القضاء على تلكم الأسماك المشاكسة ! فبعد عجزها عن الوصول لـ”لأسماك” التي لم تقع في شباكها! قرر أقوى جيش في منطقة الشرق الأوسط، مدعوما بقوى ومرتزقة العالم، ان يقضي تماما على الحاضنة الشعبية، بدون أدنى رحمة بالأطفال أوشفقة بالنساء والمدنيين العزل الأبرياء، فهو ينظر إليهم جميعا كـ”إرهابيين” وأعداء، وقصفهم بالصواريخ اسهل من ملاحقة المسلحين في مدينة الأنفاق تحت الأرض، كما أن صور الدمار الشامل في غزة ومشاهد الجوعى تخفي فشل الجيش الذريع في تحقيق أهدافه العسكرية، التي على رأسها استسلام حماس والاحتفال بالنصر المطلق!
والخلاصة أن “جيش الدفاع الاسرائيلي”، مدعوما بقوى العالم، ليس قويا بما يكفي ليفرض الاستسلام أو يحصل على صورة النصر المطلق التي يحاول ملاحقتها منذ سنتين تقريبا بدون جدوى..!
وفي السياق ذاته، وانسجاما مع صورة “البطل الذي يهزم” التي أطلقتها هوليود، كان لا بد من إخفاء الخسائر، فالسيناريو يتطلب ان يتجاوز “البطل” الصعاب بسهولة ويقضي على الأعداء بدون معاناة واضحة، لذلك ترى “جيش” اليهود الصهاينة عندما تضربهم المقاومة بقوة وتؤلمهم لا يعترفون إلا بأقل الخسائر (إصابة شخصين أحدهم جراحه خطيرة!) حتى لا تخدش صورة البطل! فالرقابة العسكرية تعمل بكل طاقتها، وتمنع نشر كل خبر او صور عن الخسائر، ويفرض “جيش” الاحتلال تكتما مشددا ولا يكشف أبدا الخسائر الحقيقية، إنه التعتيم الإعلامي الشامل وعدم الكشف عن الأضرار للحفاظ على صورة “البطل” إياه! لذلك عندما يتلقى ذلك “الجيش الذي لا يقهر” ضربة مؤلمة من المقاومة الفلسطينية، لا يعترف بأنها عملية ناجحة من المقاومة خلفت الكثير من القتلى والجرحى في صفوفه، بل يكتفي بالحديث عن “حدث أمني صعب في خان يونس” و”حدث أمني خطير جدا في شمال قطاع غزة” أو “حدث امني كبير”… ويتكتم عن التفاصيل التي تمنعها الرقابة العسكرية، حتى يحافظ الرأي العام الداخلي على “نفسيته” وكل المتعاطفين معه وشرذمة “كلنا اسرائيليون” و”تازة قبل غزة” وكافة المساندين والمروجين لسردية الجيش الذي لا يقهر حتى لا تتهشم او تتقهقر!
ففي الأفلام الهوليودية نلاحظ أن البطل يتعرض لكم هائل من زخات الرصاص ولكنه يتجاوزها بسهولة ويتلقى فقط ضربات خفيفة قد تسقطه أرضا، ولكنه ينهض لينتصر! وكذلك خسائر “اسرائيل” فهي دوما عبارة عن قتيل واحد وثلاث مصابين أحدهم في الغالب يعاني من جروح خطيرة! والباقي جروح طفيفة!! اما صواريخ “العدو” فتسقط المسكينة غالبا في الأماكن المفتوحة خوفا من بركة شعب الله المختار!
إنه باختصار شعب الله المحتال، فالصهاينة الجبناء يحاولون الاستفادة من الضربات التي يتلقونها وكذا الجرائم التي يرتكبونها، إذا كانوا ضعفاء وتلقوا الهزيمة أوالاضطهاد يلعبون دور الضحية ويحتكرونه وعلى العالم التعاطف معهم ويحرم عليه نسيان ما تعرضوا له ويضخمون ذلك أمام العالم! أما إذا طغوا وتجبروا فعلى أمريكا والعالم الغربي مساندة”دفاعهم عن النفس” والاشادة بـ”انتصاراتهم” وتفوقهم والاحتفاظ بصورة الجيش الذي لا يقهر في الاذهان، لذلك يخفون خسائرهم! إنهم مرعوبون من الاعتراف بالهزيمة، فمثلما تخشى هوليود إحباط جمهورها الواسع، فـ”إسرائيل” تخشى أن يُضعف الاعتراف بخسائرها وهزيمتها معنويات “جيشها” و”شعبها” المرعوب!. وعندما يتحرك الرأي العام العالمي لما يراه من سياسة التجويع المتعمدة وجرائم الإبادة الجماعية، ترى شعب الله المحتال يحتال على العالم بإسقاط بعض الصناديق من الجو، ويحرك وفد التفاوض لشراء مزيد من الوقت ساعيا إلى مزيد من الجرائم ضد الانسانية التي تنتظر العقاب..فماهي بـ”دولة خارقة” ولكنها باختصار شديد “دولة” مارقة…